فصل: تفسير الآية رقم (117):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (113- 114):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إياهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [113- 114].
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إياهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}.
لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بيّن سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً، حيث نهى عن الاستغفار لهم بعد تبين شركهم وكفرهم، لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة، حتى مع الأقرباء، لأن قرابتهم وإن أفادتهم المناسبة بهم والرحمة بهم، فلا تفيدهم قبول نور الاستغفار {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.
ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه، أنه كان لأجل وعد تقدم منه له، بقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}، وقوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}، وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} ذلك {تَبَرَّأ مِنْهُ} أي: من أبيه بالكلية، فضلاً عن الاستغفار له.
وبيّن تعالى الحامل لإبراهيم على الاستغفار، بأنه فرط ترحّمه وصبره بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ} أي: كثير التأوه من فرط الرحمة، ورقة القلب {حَلِيمٌ} أي: صبور على ما يعترضه من الإيذاء، ولذلك حلم عن أبيه، مع توعده له بقوله:
{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}، واستغفر له بقوله: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}، وذلك قبل التبيين، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك.
وفي الآية تأكيد لوجوب الإجتناب بعد التبيين، بأنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من أبيه بعد التبيين، وهو في كمال رقة القلب والحلم، فلابد أن يكون غيره أكثر منه اجتناباً وتبرؤاً.
تنبيهات:
الأول: ساق المفسرون هاهنا روايات عديدة في نزول الآية، ولما رآه بعضهم متنافية، حاول الجمع بينها بتعدد النزول، ولا تنافي، لما قدمناه من أن قولهم نزلت في كذا قد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع من كذا بمعنى أن نزولها يتناوله. وقد يراد به أن كذا كان سبباً لنزولها، وما هنا من الأول، ونظائره كثيرة في التنزيل، وقد نبهنا عليه مراراً، لاسيما في المقدمة. فاحفظه.
الثالث: قال عطاء بن أبي الرباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنى، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين، ثم قرأ الآية. وهذا فقه جيّد.
الثالث: قال بعض اليمانيين: استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل. وهذا يحكى عن أبي جعفر: إذا قال: آه لم تبطل صلاته، لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك، ومذهب الأئمة بطلانها، سواء قال: آه أو أوه، لأن ذلك من كلام الناس، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة. انتهى.
الرابع: قال في العناية: أوّاه فعّال للمبالغة من التأوّه، وقياس فعله أن يكون ثلاثيًّا، لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه وحكى قطرب له فعلاً ثلاثيًّا، وهو آهَ يَؤُوهُ، كقام يقوم، أوْهاً، وأنكر عليه غيره بأن لا يقال إلا أوّه وتأوّه قال:
إذا ما قمتُ أرْحَلُها بليل ** تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ

والتأوه قول آه ونحوه مما يقوله الحزين، فلذا كني به عن الحزن، ورقة القلب. انتهى.
وأوّه بفتح الواو المشدّدة ساكنة الهاء، وأواه، وأوه بسكون الواو، والحركات الثلاث قال:
فأوْهِ على زيارةِ أمّ عَمْرو ** فكيف مع العدا ومع الوُشاةِ

وربما قلبوا الواو ألفاً، فقالوا: آهِ من كذا قال:
آهِ من تَيَّاكِ آهَا ** تَرَكَتْ قلبي مُتَاها

وآهٍ بكسر الهاء منونة وحكي أيضاً آها وواها، وفيها لغات أخرى أوصلها التاج إلى اثنتين وعشرين لغة، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن، مبنيّات على ما لزم آخرها إلا آها، فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر، كأنه قيل: أتأسف تأسفاً.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (115):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [115].
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين، والبراءة منهم، وترك الاستغفار لهم، وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول إليهم ما يتقون، ودلالته إياهم على الصراط السوي فضلّوا عنه، فأضلهم الله، واستحقوا عقابه.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعليل لما سبق، أي: أنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته، فبين لهم ذلك، كما فعل هنا.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (116):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [116].
{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} تقوية لما تقدم من التبرؤ منهم، وإرشاد للمؤمنين بأن يتكلوا على ربهم، ولا يرهبوا من أولئك، فإنه إذا كان ناصرهم فلا يضرهم كيدهم، وتنبيه على لزوم امتثال أمره، والإنقياد لحكمه، والتوجه إليه وحده، إذ لا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه تعالى.
تنبيه:
وقف كثير من المفسرين في الآية هنا، أعني قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً} الآية، على ما روي في الآية قبلها، من نزولها في استغفار وقع من المؤمنين للمشركين، فربطوا هذه الآية بتلك، على الرواية المذكورة، ونزَّلوها على المؤمنين، فقالوا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً} أي: ليحكم عليهم باستغفارهم للمشركين بالضلال بعد إذ هداهم بالنبوة والإيمان، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا، فأما إذا لم يبين فلا ضلال، إلى آخر ما قالوه....
وما أبعده من تفسير وتأويل الرازيّ ذكره وجهاً، وأشفعه بما اعتمدناه، وهو الحق.

.تفسير الآية رقم (117):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [117].
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك، مؤمنهم ومنافقهم، والمنفق لها طوعاً أو كرهاً، والمرغّب فيها أو عنها، والمتخلف نفاقاً أو كسلاً، وأنبأ عما لحق كلاًّ من الوعد والوعيد، وميز الصادقين من غيرهم، ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلاً للدعة وهم صادقون في إيمانهم، ثم ندموا فتابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم، فقبلها، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية، وصدرها بتوبته على رسوله، وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويهاً لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبيّ والمهاجرين والأنصار، كل على حسبه، وإبانةً لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأنها صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين، ليظهر فضيلة الصلاح والوصف للمدح، كما يكون لمدح الموصوف، يكون لمدح الصفة، وهذا من لطائف البلاغة، وهو كما قال حسان رضي الله عنه:
ما إِنْ مَدَحْتُ مُحَمّداً بِمقالَتِي ** لَكْنِ مَدَحْتُ مَقالَتِي بِمُحَمَّدِ

وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار.
قال الحاكم: ودلت على فضل عثمان، لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه، وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم، ووصفهم باتِّباعه، فوجب القطع بموالاتهم.
وقوله تعالى: {فِي ساعَةِ الْعُسْرةِ} أي: في وقتها، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم، والعسرة حالهم في غزوة تبوك، كانوا في عسرة من الظَّهْر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة من الزاد، حتى إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتدالون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها الآخر، ثم يشرب عليها: وفي عسرة من شدة لَهَبان الحرّ ومن الجدب، وفي عسرة من الماء، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره، فعصر فرثه فشربه، وجعل ما بقي على كبده.
وقد حكى القالي في أماليه أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها، سقوا الإبل على أتم أظمائها ثم قطعوا مشافرها، أو خزموها لئلا ترعى، فإذا احتاجوا إلى الماء افتظوا كروشها، فشربوا ثميلها، وهو كثير في الأشعار. كذا في العناية.
ونقل الرازي عن أبي مسلم، أنه يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة، جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول، وعلى المؤمنين، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها.
وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر}، وقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوقات الشديدة، والأحوال الصعبة، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم. انتهى.
أقول هذا الإحتمال، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية، وسباقها، القاصران على غزوة تبوك، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج، واتباعه عليه السلام، بل وقع أحياناً في مصاف القتال.
وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها غزوة العسرة، ومن خرج فيها جيش العسرة.
وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أي: عن الحق، أو الثبات على الإتباع للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم.
وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ} تأكيد ظاهر، واعتناء بشأنها، هذا إذا كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني، فلا تكرار.
قال بعضهم: ذكر التوبة أولاً قبل ذكر الذنب، تفضلاً منه، وتطييباً لقلوبهم. ثم ذكر الذنب بعد ذلك، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى، تعظيماً لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم، وعفا عنهم. ثم أتبعه بقوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} تأكيداً لذلك.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (118):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [118].
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي: تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم، والثلاثة هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكلهم من الأنصار، لم يقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي: مع سعتها، وهو مثل الحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه، قلقاً وجزعاً مما هم فيه، إذ لم يمكنهم الذهاب لأحد، لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من مجالستهم ومحادثتهم. وإذا، يجوز كونها شرطية جوابها مقدر، وأن تكون ظرفية غاية لما قبلها.
{وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغمّ، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك لأنهم لازموا بيوتهم، وهُجِروا نحواً من خمسين ليلة، وفيه ترقٍّ من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم، وهو في غاية البلاغة {وَظَنُّوا} أي: علموا {أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} أي: لا مفرّ من غضب الله {إِلَّا إِلَيْهِ} أي: إلى استغفاره {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} أي: ليستقيموا على توبتهم، ويستمروا عليها، أو ليعدّوا من جملة التائبين، أو المعنى: قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل، إذا صدرت منهم هفوة، ولا يقنطوا من كرمه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

.تفسير الآية رقم (119):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [119].
{يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} أي: في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله على الطاعة، من قوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، أو هم الثلاثة، أي: كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم.
تنبيهات:
الأول: روى الإمام أحمد والشيخان حديث كعب وصاحبيه مبسوطاً بما يوضح هذه الآية:
قال الزهريّ: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه- وكان قائد كعب من بنيه، حين عمي- قال: سمعت كعباً يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط، إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يُعاتَب أحد تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد.
ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها وأشهر.
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزاة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها، إلا روّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدوّاً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان-.
قال كعب: فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه، ما لم ينزل فيه وحي من الله عزَّ وجلَّ.
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة، حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر- أي: أميل- فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً، والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، وقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين، ثم ألحقه، فغدوت بعدُ لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم- وليتني فعلت- ثم لم يقدّر ذلك لي.
فكنت إذا خرجت في الناس، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك. فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك؟» فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله بُراده، والنظر في عطفيه! فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت. والله! يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك، حضرني بثّي أتذكر الكذب، وأقول: بم أخرج من سخطته غداً؟ وأستعين على ذلك بك ذي رأي من أهلي.
فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عن الباطل، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس- فلما فعل ذلك، جاءه المتخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول الله علانيتهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: «تعال!» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظَهْراً؟» فقلت يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أن أخرج من سخطه بعذر. لقد أُعطيتُ جدلاً، ولكني، والله لقد علمت، لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزَّ وجلَّ. والله ما كان لي عذر، والله! ما كنت قط أفزع ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
قال: فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك!» فقمت، وقام إليّ رجال من بني سلمة، واتبعوني، فقالوا لي: والله! ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.
قال: فوالله! ما زالوا حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي.
قال: ثم قلت لهم: هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك.
قلت: فمن هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامريّ، وهلال بن أمية الواقفيّ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، لي فيهما أسوة.
قال: فمضيت حين ذكروهما لي.
فقال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، أيها الثلاثة، من بين من تخلف. فاجتنَبنا الناسُ، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم وأقول في نفسي: أحَرَّكَ شَفَتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني.
حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إليّ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، فسلمت عليه، فوالله! ما ردّ عليّ السلام. فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت.
قال: فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فقال: الله ورسوله أعلم. قال ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار. فبينما أنا أمشي بسوق المدينة، إذا أنا بنبطي من أنباط الشام، ممن قدم بطعامه يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال فطفق الناس يشيرون إليَّ، حتى جاء فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فإذا فيه:
أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.
قال- فقلت حين قرأته-: وهذا أيضاً من البلاء.
قال: فتيممت به التنور فسجرته به. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخميس، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك. قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها.
قال: وأرسل إليَّ صاحبيّ بمثل ذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء! قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن هلالاً شيخ ضعيف، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك! قالت: وإنه والله! ما به من حركة إلى شيء، وإنه والله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه. قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقوله فيها إذا استأذنته، وأنا رجل شابّ.
قال: فلبثنا عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين انتهى عن كلامنا.
قال: ثم صليت صلاة الصبح، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً أوفى على جبل سَلْع، يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزَّ وجلَّ بالتوبة علينا، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَلَ صاحبيّ مبشرون، وركض إليّ رجلٌ فرساً، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه.
والله- ما أملك يومئذ غيرهما- واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلق أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بتوبة الله، يقولون: ليهنئك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، والناس حوله، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني- والله! ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره- قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- وهو يبرق وجهه من السرور-: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك!» قال، قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله». قال، وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي، صدقةً إلى الله وإلى رسوله. قال: «امسك عليك بعض مالك، فهو خير لك». قال، فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. قال، فو الله! ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أحسن مما أبلاني الله تعالى. والله! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي.
قال، وأنزل الله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} إلى آخر الآيات.
قال كعب: فو الله! ما أنعم عليّ من نعمة قط، بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُهُ، فأهلك كما هلك الذين كَذَبُوه، فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه، حين أنزل الوحي، شرّ ما قال لأحد. فقال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.
قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلِّفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه أيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه.
وفي رواية: ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلامي، وكلام صاحبيّ، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا، فلبث كذلك حتى طال عليّ الأمر، فما من شيء أهم إليّ من أن أموت، فلا يصلّ عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلّى عليّ، ولا يسلّم عليّ.
قال: وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني، معتنية بأمري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك». قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره؟ قال: «إذاً فيحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل».
حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا- أخرجه البخاري ومسلم-.
قال ابن كثير: هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها.
الثاني: قال بعض المفسرين: في الآية دليل على الشدة على من فعل الخطيئة وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة.
الثالث: في الآية دليل على التحريض على الصدق.
قال القاشانيّ: في قوله تعالى: {يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي: في جميع الرذائل بالإجتناب عنها، خاصة رذيلة الكذب، وذلك معنى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فإن الكذب أسوء الرذائل وأقبحها، لكونه ينافي المروءة، وقد قيل: لا مروءة لكذوب، إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الْإِنْسَاْن عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق ولم تحصل فائدة النطق، وحصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشيطنة فالكذاب شيطان. وكما أن الكذب أقبح الرذائل، فالصدق أحسن الفضائل، وأصل كل حسنة، ومادة كل خصلة محمودة، وملاك كل خير وسعادة وبه يحصل كل كمال، وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه، كما قال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} في عقد العزيمة، ووعد الخليقة. كما قال في إسماعيل:
{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}.
وإذا روعي في المواطن كلها، حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل، صدقت المنامات والواردات، والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات، كأنه أصل شجرة الكمال، وبذرة ثمرة الأحوال. انتهى.
ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين، أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية، فلا يجوز تخلف الجميع، ولا يلزم النفر للناس كافة، فقال سبحانه: